ما دفعني للهجرة من وطنٍ يعشّش فيه الفساد بشتّى أشكاله وأنواعه هو الأمل في إيجاد مكان أكثر أمناً وأمانا. مكان أفضل تعليماً وأكثر استقراراً لي ولأسرتي. وظننت أنّ هذا المكان ستكون مدينة كيبيك حتّى اكتشفت العكس ورأيت الخلل القائمٍ ولمسته عن قرب. وكانت الدّهشة الكبرى أنني بدأت في استكشاف العديد من مكامن الخلل، الواحد تلو الآخر، وكأنّ الفساد الذي عايشته في الماضي في بلادي أراه اليوم يزحف نحو وطني الجديد كندا استعداداً لأخذ موقعه وبقوّةٍ في منظومة الفساد في القريب العاجل، ليبدو الأمن والأمان والتعليم والإستقرار حلماً بعيد المدى إن تغاضينا عن حلّ كافّة المشاكل الأساسيّة المُعاشة حاليّاً ويعاني منها الجميع، بمن فيهم أنا وأسرتي. أليس من المفترض أن تشكّل الخدمات الطبّبة صمّام الأمان للشعب في دولةٍ بمصافّ أوائل دول العالم؟ الطبابة مجّانية في كيبيك. نعم! لكن كيف يمكن أن تغيب إستراتيجية التطوير والإصلاح المطلوبين عن نظامها الصحّي على كثير من الأصعدة؟ فهل كان هذا النّظام وليد البارحة؟ بالطبع لا! إذاً دعونا ندقّق في بعض الوقائع، وما يحصل على أرض الواقع المُعاش. كم عدد طلّاب الطبّ الذين يتخرّجون كل عام في كندا؟ هل يحقّ لكلّ خرّيج كليّة طب كندي أن يصبح طبيباً ممارساً؟ طبعاً لا! كل عام يتخرّج حوالي ٢٩٠٠ طالب من كلّيات الطبّ الكنديّة ال١٧ وهناك ما مجموعه الكلّي حوالي ٣٣٠٠ وظيفة تدريب متوفّرة في جميع أنحاء كندا في جميع التّخصصات، يُحتَسَب من أصلها حوالي ٧٠٠ وظيفة مخصّصة للدّراسات العليا في بيئات اللغة الفرنسية بشكل حصري. هنا تبدأ المشكلة. كيف يمكن لكلّ خرّيجي كلّيات الطبّ الحصول على فرص عمل أمام العائقين الأساسيّين: عدد الوظائف (٣٣٠٠ ـ ٧٠٠) وتوزيعها على التخصّصات حسب الحاجة المجتمعيّة والتي تقدّرها الوزارات المعنيّة حصراً؟ أمّا العائق الثالث فهو الظاهرة المتمثّلة في "عدم تطابق" عدد وتوزيع التخصصات مع متطلبات الخريجين وخياراتهم حسب مهاراتهم وتخصصاتهم التعليميّة وتطلعاتهم، الأمر الذي يجب مراعاته أصلاً. إذاً فالقبول في كلّية الطب لا يضمن الوصول في نهاية المطاف إلى ممارسة المهنة حقّا. وإدراك هذه الحقيقة كافٍ لتوليد بيئة تنافسية تتزايد بشكل مطّرد بين الأطبّاء لشغل مناصب الدراسات العليا، الأمر الذي يهدد معنى الزمالة والتعاون المهنيّ في سبيل التطوير. والسّبب البديهيّ هو أن الطالب يتحمّل عبء ديون القروض الشخصية التي تتراوح ما بين ١٠٠ و٢٥٠ ألف دولار المُطالب بتسديدهم فور إيجاد وظيفة بعد تخرّجه. وبالتالي فإن الفشل في العثور على وظيفة تدريب ممكن أن يشكل كارثة مالية ونفسيّة لهؤلاء الشباب الواعدين أثناء محاولتهم بدء حياتهم المهنيّة. وخير دليل على أنّ الوضع لا يبشّر بالخير هو ما حصل في عام ٢٠١٦ حين قام الشاب روبرت بإنهاء حياته بعد محاولتين فاشلتين للحصول على منصب "طبيب مقيم". كيف سيكون حالُ الباقين؟ والحصيلة زيادة الإحباط إحباطاً. كيف ينعكس ذلك على عامّة الشّعب؟ ـ ما زال الشّاب عاجزاُ عن الحصول على طبيب عائلة لأن الجميع يفترض أنّه يتمتّع بالصّحة والعافية. ـ ما زال الحصول على طبيب عائلة لا يحلّ الأزمة. ولا بدّ من الحذر إن أردتَ الحصول على موعد مع طبيبك ووصف حالتك المرضيّة بأنّها تعيسة، وإلاّ فالنتيجة إمّا (١) أن تذهب إلى قسم الطّوارئ في أقرب مستشفى وتنتظر لساعاتٍ وساعات، (٢) أو أن تتحمّل أعراض المرض إلى أن تخف وتتلاشى فتستغني عن الذهاب إلى الطّبيب، (٣) أو أن تذهب إلى أي عيادة في منطقة سكنك وتنتظر لساعات وساعات لأنّه ليس لديك موعد. فالمرضى كُثُر وحالتك قد لا تكون من الأولويّات طبّياً. والحصيلة زيادة الإحباط إحباطاً. كيف يتصرّف المعنيّون في كيبيك حيال الموضوع؟ ـ الدّولة لا تريد فائضاً في عدد الأطبّاء حيث تحصر عمليّة القبول بكلّيات الطبّ للحفاظ على مستوى دخل الأطبّاء، والتي في الحقيقة تستفيد منهم ومن أجورهم المرتفعة، فنظام ضرائبها يفرض عليهم دفع نسبة ٤٠٪ على الأقلّ من هذه الأجور للدّولة، عدا الضّرائب الأخرى التي تُفرض عليهم، ومن ثمّ تزيد عليهم الدّولة أعباءهم الحياتية بحرمانهم من التمتّع بمزايا التأمين الصحّي، الذي يناله المواطن العاديّ مجانا، بحجّة أنّهم يتقاضون رواتب عالية. أليس هذا سبباً كافياً لترك الكثير منهم للبلد للعمل خارجه وهو ما يفكّك أواصر العائلة؟ وننتظر من الدّولة الإجابة عن هذا السّؤال ولتقُل لنا كيف ستعالج هذا الوضع القائم منذ سنوات؟ وهل هناك حلّ يُنتظر على المدى المنظور؟ ـ كيف تتعاطى الدّولة مع ملفّ الأطبّاء المتقاعدين كلّ عام؟ كيف يتمّ تعويضهم في ظلّ ازدياد المهاجرين الجدد إلى كندا؟ ـ والأهم كيف تتعاطى مع مَن يتأزّم وضعهم الصّحيّ بسبب التأخير الناجم عن البروتوكول الطبّي المتّبع في المستشفيات، وبالتالي معاناتهم من مضاعفات وأعراض مستجدّة التي قد تكون خطيرة، ولم يكونوا ليعانوا منها لو كانت الخدمات الطبّية تلبّي الحاجة كما يجب. ـ لماذا تتأخّر مواعيد ردّ الخبر بعد الفحوصات المخبريّة التي قد تصل إلى سنة كاملة. ألا تزداد المشاكل تعقيداً وخطراً بسبب التأخير؟ دعونا إذاً من إتهام الأطبّاء بالإهمال ولنرى لماذا تكون سياسة الدّولة غير واضحة في تعاطيها مع الملفّ الطبّي وغيره من الملفّات الحياتيّة الهامّة؟ متى سيصبح مستوى الخدمات الطبية بمستوى مرتبة البلد بين الدّول المتقدّمة؟ في غياب الإجابات المقنعة سيتبدّد الحلم بالإستقرار الحقيقيّ وببقاء العائلة كنواة أساسيّة للمجتمع. لذا أرى أنّنا بحاجة لنظامٍ تربويٍّ ينهض بالمجتمع ليس فقط على مستوى التفكير بطريقة علميّة وبمنطق سليم وباستقلاليّة ومسؤوليّة، بل بنظامٍ يجعل الإنسان متمسّكاً بعائلته وبوطنه، إنسان ينعم بالطّمأنينة. وإلّا فعلينا من الآن تغيير المناهج الدراسية ومحتواها لإعداد الطلاب لتقديم بدائل لحل هذه المشكلة أو التخفيف منها وذلك باحتساب المهن البديلة كحجر الزاوية الجديد في حياتهم التعلُّميّة، وليبقى السؤال، هل هكذا نحبّ أن يكون وطننا المنشود؟ Comments are closed.
|
Archives
February 2024
Categories |